Kitab Akhlak Bertajuk (قول المختار في مجموعة الاخلاق الاخيار)
مقدمة الكتـاب
الحمد لله البر الرحيم، الواسع العليم، ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، المنزل عليه في الذكر الحكيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وعلى آله وأصحابه الكرام جواره في دار النعيم.
أما بعد، فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين جلوا به ذروة المجد والسناء وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء لِعِلْمهم بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه وبما كان عليه أئمة علماء السلف واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف.. فهـذه المجموعة من الأخلاق صغير الحجم ولكن ندعوا الله تعـالى عسى أن يكون كثير النفع.. للمجمّع خصوصا, وللطلبة المـدرسة المتوسطة إحيـاء العلوم عمومـا ...
وسميتهـا بـ (( قول المخـتـار فى مجموعة الأخلاق الأخيـار ))
فضل العـلم والعلمـاء وفضل تعليمه وتعلّمه
قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] قال ابن عباس: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام.
قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } [آل عمران: 18] الآية. بدأ سبحانه بنفسه وثَنَّى بملائكته وثَلَّثَ بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً.
وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]، وقال تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]. وقال تعالى: { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة: 7] إلى قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 8].
فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: ((العلماء ورثة الأنبياء)) وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذُكِرَ عنده رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال: (( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)).
وعنه - صلى الله عليه وسلم -: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافـر)).
واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.
وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل: لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يبينون ما يحل منه وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها.
وعنه - صلى الله عليه وسلم – ((يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء، قال بعضهم: هذا مع أن أعلى ما للشهيد دمه وأدنى ما للعالم مداده)).
وعنه - صلى الله عليه وسلم - ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
وعنه - صلى الله عليه وسلم – ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)). وفي حديث: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء))، وروى: ((العلماء يوم القيامة على منابر من يوم)).
ونقل القاضي حسين بن محمد رحمه الله في أول تعليقه أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أحب العلم والعلماء لم تكتب عليه خطيئة أيام حياته.
قال: وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم عالمًا فكأنما أكرم سبعين نبيًا ومن أكرم متعلمًا فكأنما أكرم سبعين شهيدًا، وأنه قال: من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف نبي ومن صلى خلف نبي فقد غفر له.
ونقل الشرمساحي المالكي في أول كتابه نظم الدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من عظم العالم فكأنما يعظم الله تعالى ومن تهاون بالعالم فإنما ذلك استخفاف بالله تعالى وبرسوله.
وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًا أن يتبرأ منه من هو فيه. وقال بعض السلف: خير المواهب العقل وشر المصائب الجهل. وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا.
وقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال وهب: ((يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيًا، والعز وإن كان مهينًا، والقرب وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا)).
وعن معاذ رضي الله عنه: ((تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة)).
وقال الفضيل بن عياض: عالم معلم يدعى كثيرًا في ملكوت السماء.
وقال سفيان بن عيينة: ((أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء)) ـ وقال أيضًا: لم يعط في الدنيا شيئًا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه، فقيل: عمن هذا؟ قال: عن الفقهاء كلهم.
وقال سهل: ((من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك)).
وقال الشافعي رضي الله عنه: (( إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولي)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة)).
وعن سفيان الثوري والشافعي رضي الله عنهما: ((ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم)).
وعن الزهري رحمه الله: ((ما عُبد الله بمثل الفقه)).
وعن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا، وباب من العلم نعلمه عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ أحب إلينا من مائة ركعة تطوعًا)).
وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.
آداب طالب العلم مع شيخه (حقوق المعلم على الطالب )
أولا : أنّه ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحـسن تعليمًا وأجود تفـهيمًا ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل.
فعن بعض السلف : ((هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
الثاني : أن ينقاد لشيخه في أموره ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاروه فيما يقصده ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويبالغ في حرمته يتقرب إلى الله تعالى بخدمته، ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتواضعه له رفعة.
وقال الغزالي : لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقا السمع، قال: ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده وليدع رأيه فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام بقوله: { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [الكهف: 67]، هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم حتى شرط عليه السكوت فقال: { فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [الكهف: 70].
الثالث : أن ينظره بعـين الإجـلال ويعتقد فيه درجة الكمال فإن ذلك أقرب إلى نفعه به،
وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء وقال : (( اللهم اسـتر عيب شيخي عني ولا تذهب بركـة علمه مني )).
وقال الشافعي رضي الله عنه :(( كنت أصفح الـورقة بين يدي مـالك صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمـع وقعها )).
ويروى العلم أزيـن عند أهلـه من أن يضيعوه . وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه ، ولا يناديه مِنْ بُعْدٍ بل يقول : يا سيدي ويا أستاذي.
وقال الخطيب : يقول : أيها العالم ، وأيها الحافظ ونحو ذلك ، وما تقولون في كـذا وما رأيكم في كـذا وشبه ذلك، ولا يسميه في غيبته أيضًا باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كقوله قال الشيخ أو الأستاذ كذا، وقال شيخنا أو قال حجة الإسلام أو نحو ذلك.
الرابع : أن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، قال شعبة: كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما يحيا، وقال: ما سمعت من أحد شيئًا إلا واختلفت إليه أكثر مما سمعت منه.
ومن ذلك أن يعظم حرمته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس.
وينبغي أن يدعو له مدة حياته ويرعى ذريته وأقاربه وأوداءه بعد وفاته، ويتعمّد زيارة قبره والاستغفار له والصدقة عنه ويسلك في السمت والهدى مسلكه، ويراعي في العلم والـدّين عادته ويقتدي بحركاته وسكناته، في عاداته وعباداته، ويتأدب بآدابه ولا يدع الاقتداء به.
الخامس: أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأوّل أفـعاله التي يظهر أن الصّواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جـفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
وعن بعض السلف : ((من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة )).
ولبعضهم : (( واصبر لجهلك إن جفوت معلمًا * اصبر لدائك إن جفوت طبيبه ))
وعن ابن عباس : ((ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا )). وقال قبله :
((لا ينصحان إذا هما لم يكرما * إن المعلم والطبيب كليهما ))
السادس: أن يشكر الشيخ على توقيفه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه .
وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب أو نقيصة صدرت منه وكان يعرفه من قبل فلا يظهر أنه كان عارفًا به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، فإن كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به وإلا تركه، إلا أن يترتب على ترك بيان العذر مفسدة فيتعين إعلامه به.
السابع: أن لا يد خـل على الشيخ في غير المجلس العلـم إلا باستئذان سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن له انصرف ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيًا بأدب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً قليلاً، فإن كان الموضع بعيدًا عن الباب والحلقة فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يُقَدَّم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم سلم عليه الأفضل فالأفضل.
وينبغي أن يدخل على الشيخ كامل الهيئة متطهر البدن والثياب نظيفهما بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر وقطع رائحة كريهة لاسيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة.
ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام وعنده من يتحدث معه فسكتوا عن الحديث أو دخل والشيخ وحده يصلي أو يذكر أو يكتب أو يطالع فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث فليسلم ويخرج سريعًا إلا أن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا أن يأمره بذلك.
وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالسًا انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه؛ فإن كل درس يفوت لا عوض له ولا يطرق عليه ليخرج إليه، وإن كان نائمًا صبر حتى يستيقظ أو ينصرف ثم يعود والصبر خير له، فقد روي عن ابن عباس كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس، وكذلك كان السلف يفعلون.
الثامن : أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب كما يجلس الصبي بين يدي المقري أو متربعًا بتواضع وخضوع وسكون وخشوع ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه ويقبل بكليته عليه متعقلاً لقوله بحيث لا يُحْوِجُه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو قدامه بغير حاجة ولاسيما عند بحثه له أو عند كلامه معه.
ولا يسند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة أو درابزين، أو يجعل يده عليها، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يعتمد على يده إلى ورائه أو جنبه، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب، ولا يعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم تبسمًا بغير صوت البتة.
ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوبه ويتعاهد تغطية أقدامه وإرخاء ثيابه وسكون يديه عند بحثه أو مذاكرته، وإذا عطس خفض صوته جهده وستر وجهه بمنديل أو نحوه، وإذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.
وعن علي رضي الله عنه قال: ((من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيديك ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن: قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ولا تسارّ في مجلسه ولا تأخذ بثوبه ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء))، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوصية ما فيه كفاية.
التاسع: أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له " لم"، ولا "لا نسلم"، ولا "من نقل هذا"، ولا "أين موضعه" وشبه ذلك .
وعن بعض السلف : ((من قال لشيخه لم، لم يفلح أبدًا، وإذا ذكر الشيخ شيئًا فلا يقل: هكذا قلت أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان، إلا أن يعلم إيثار الشيخ ذلك، وهكذا لا يقول: قال فلان خلاف هذا، وروى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح ونحو ذلك)).
وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهوًا فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيبًا لغفلة أو سهو أو قصور نظر في تلك الحال فإن العصمة في البشر للأنبياء صلى الله عليهم وسلم
العاشر : إذا سمع الشـيخ يذكـر حكمًا في مسـألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرًا وهو يحفظ ذلك أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال متعطش إليه فرح به كأنه لم يسمعه قط.
قال عطاء: (( إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا)).
قال الـزهري : (( إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وينبغي أن لا يقصر في الإصغاء والتفهم أو يشتغل ذهنه بفكر أو حديث ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب بل يكون مصغيًا لكلامه حاضر الذهن لما يسمعه من أول مرة)).
الحـادي عشـر: أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسالة أو جواب سؤال منه أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه له قبل الشيخ، فإن عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه فلا بأس.
وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه؛ أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه بل يصبر حتى يفرغ الشيخ كلامه ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع جماعة المجلس.
الثـاني عشـر: إذا ناوله الشيخ شيئًا تناوله باليمين وإن ناوله شيئًا ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا أو قصة أو مكتوب شرعي ونحو ذلك نشرها ثم دفعها إليه ولا يدفعها إليه مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورة قبل أن يطويها أو يتربها.
وإذا جلس بين يديه لذلك فلا يقرب منه قربًا كثيرًا ينسب فيه إلى سوء أدب.
ولا يضع رجله أو يده أو شيئًا من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئًا من بدنه أو ثيابه.
وإذا ناوله قلمًا ليمد به فليمده قبل إعطائه إياه، وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة لكتابة منها، وإن ناوله سكينًا فلا يصوب إليه شفرتها ولا نصابها ويده قابضة على الشفرة، بل يكون عرضًا وحد شفرتها إلى جهته قابضًا على طرف النصاب مما يلي النصل جاعلاً نصابها على يمين الآخذ.
وإن ناوله سجادة ليصلي عليها نشرها أولاً والأدب أن يفرشها هو عند قصد ذلك، وإذا فرشها ثنى مؤخَّرَ طرفها الأيسر كعادة الصوفية فإن كانت مثنية جعل طرفيها إلى يسار المصلي وإن كانت فيه صورة محراب تحرى به جهة القبلة إن أمكن.
ولا يجلس بحضرة الشيخ على سجادة ولا يصلي عليها إذا كان المكان طاهرًا.
وإذا قام الشيخ بادر القوم إلى أخذ السجادة وإلى الأخذ بيده أو عضده إن احتاج، وإلى تقديم نعله إن لم يشق ذلك على الشيخ؛ ويقصد بذلك كله التقرب إلى الله وإلى قلب الشيخ.
وقيل: ((أربعة لا يأنف الشريف منهن وإن كان أميرًا؛ قيامُه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عن ما لا يعلم، وخدمته للضيف)).
الثالث عشر : إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل وخلفه بالنهار إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها ويتقدم عليه في المواطئ المجهولة الحال كوحل أو حوض، أو المواطئ الخطرة .
وإذا مشى أمامه التفت إليه بعد كل قليل ، فإن كان وحده والشيخ يكلمه حالة المشي وهما في ظل فليكن في يمينه وقيل: عن يساره، متقدمًا عليه قليلاً ملتفتًا إليه ويُعَرِّف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به.
ولا يمشي لجانب الشيخ إلا لحاجة أو إشارة منه ، ويحترز من مزاحمته بكتفه أو بركابه إن كانا راكبين وملاصقة ثيابه .
وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام، ويقصده بالسلام إن كان بعيدًا ولا يناديه ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب منه ويتقدم عليه ثم يسلم، ولا يشير عليه ابتداء بالأخذ في طريق حتى يستشيره ويتأدب فيما يستشيره الشيخ بالرد إلى رأيه.
ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يُحسن خطابه في الرد إلى الصواب كقوله: يظهر أن المصلحة في كذا،
ولا يقول الرأي عندي كذا وشبه ذلك.
حقـوق الـوالـدين
إعـلمـو معـاشـر الإخـوان جعلنا الله وإيّاكـم من البـارّين المحسـنين , القـائمين بحقـوقه تعـالى , وبحقوق عبـاده إبتغـائ وجهـه ومـرضـاته أن برّ الـوالـدين , وصـلة الأرحـام والأقـربين , وحـسن القيـام بالأهـل والعـيـال والممـلـوكين , والإحـسـان إلى الجـيران والأصـحـاب وسـائر المسـلمين , كـلّ ذلك ممّـا أمـر الله به وحـث عـليه , ورغـب فيه وندب إليه , ونهـى عـن تـركـه وإغـفـاله , وتوعّـد عـلى إضـاعـته وإهـمـاله .
أمّـا الـوالـدين فقـد أمـر الله ببرّهـمـاوالإحسـان إليهـما ونهـى عقـوقهمـا , وشـدّد في ذلك أبـلغ الـتشـديد , وحـذّر عنه أبـلغ التحـضير , وذلك في كتـابه العـظـيم , وعـلى لسـان رسـوله الكـريم , قال الله تعـالى : (( وقضى ربّك أن لا تعبـدوا إلاّ إيّـاه وبالـوالـدين إحسـانا إمّـا يبلغـنّ عـندك الكـبر أحـدهـمـا أو كـلاهـما فلا تقل لهـما أفّ ولا تنهـرهمـا وقـل لهمـا قولا كـريمـا . واحفـض لهمـا جنـاح الـذّلّ من الـرحمـة وقل ربّ ارحمهمـا كمـا ربّيـاني صـغيـرا )) وقال تعـالى (( ووصّينـا الإنسـان بوالـديه حملته أمّـه وهـنا على وهـن وفصـاله في عـامين أن أشـكـر لي ولـوالـديك إليّ الـمصـير )) فـانظـروا رحمكـم الله كيف قـرّن تعـالى الأمـر بالإحسـان إلى الـوالـدين مع توحـيده وعبـادته , وكيف قـرّن شـكرهمـا بشـكره , وقال تعـالى : (( واعـبدوا الله ولا تشـركـو به شـيئا وبالـولـدين إحسـانـا )) وقال تعـالى (( ووصّينا الإنسـان بوالـديه إحسـانا حملتـه أمّـه كـرهـا ووضعتـه كـرهـا .... )) الأية إلى أخـرهـا, والأية الـتى تليهـا .
وقـال عـبدالله بن مسـعود وضي الله عنه : سـألت وسـول الله صـلى الله عـليه وسـلّم : أيّ الأعـمـال أحـبّ إلى الله ؟ فقـال : (( الصـلاة لـوقتهـا , قلت ثمّ أيّ ؟ قـال : برّ الـوالدين . قلت ثمّ أيّ . قال : الجـهـاد في سـبيل الله )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( وضـا الله في وضـا الـوالـدين , وسخـطـه في سـخـط الـوالـدين )).
وقال عليه الصلاة والسلام : (( ثلاث لا ينفع معهمـا عـمل : الإشـراك بالله , وعقوق الـوالـدين , والفـرتر يوم الـزحـف )).
وقال عليه الصلاة والسلام : (( أكـبر الكـبـائر ثلاث : الإشـراك بالله , وعقوق الـوالـدين , وشـهـادة الـزور....)) الـحـديث
وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( وغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهمـا أو كلاهمـا فلم يدخل الجنّة )) أي فلم يبرّهمـا برّ يكون سببا في دخوله الجنّة . وخصّ به البرّ عند الكبر لاشتداد حـاجة الإنسـان عند كبره إلى من يبرّه ويقوم به , ويتعـاهـده أكـثر من حـاجته إلى ذلك قبل الكبر والله أعـلم .
وروي عن الله تعـالى أنّه قال : (( من أصبح مـرضيّـا لوالديه مسخطا ليّ فأنا عنه راض , ومن أصبح مـرضيّا ليّ مسخطـا لوالديه فأنا عنه سـاخط )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( برّوا أبـائكم يبرّكـم أبنـائكم , وعفـو عن نساء النـاس تعفوا نسـائكم )) . وقال صلّى الله عليه وسـلّم لرجل إستأذنه في جـهـاد : (( أحيّ والداك ؟ قال نعم ففيهـا فجـاهد )) . وسأله عليه الصلاة والسلام رجـل فقال : مـا حقّ الوالدين على ولدهمـا ؟ فقال (( همـا جنّتك ونارك )).
وقال عليه الصلاة واالسلام : (( من سـرّه أن يمـدّ له في عمـره ويزاد له في رزقه فليبرّ والديه, وليصل رحمـه )).
وقال عليه الصلاة واالسلام : (( ثلاث حـرّم الله تـارك وتعـالى عليهم الجـنّة : مدمن الخمـر , واللعـاق لوالديه , ولديوث التي يقرّ الخبث في أهـله )) وورد " أنّ برّ الوالدين أفضل من الحجّ والعمـرة والجهـاد في سبيل الله , وأنّ العـاق لوالديه لا ينظـر الله إليه يوم القيـامة , وأنّه لا يرح وائحة الجنّة"
وبالجملة فحقّ الوالدين أعظم الحقوق بعـد حقّ الله وحـقّ رسـوله , فعليك يبرّهمـا وبالإحسـان إليهمـا , وبطـاعتهمـا وخفض الجنـاح لهمـا , وبتقديمهمـا في لبرّ والصلة والمعروف , على نفسك وعلى أهلك وأولادك , من غير منة عليهـمـا ولا إستثقال لهمـا , وعـدّ حـاجتهمـا إليك ورغبتهمـا في برّك وخدمتك إيّاهـما من أعظم مـا منّ الله به عليك , ووفقك له .
واعلم أنّ برّ الوالـدة أضعـاف برّ الواـلد , كمـا ورد في الحديث . ولعـلّ السبب في ذلك مـا تقاسيه الوالـدة من تعب الحمـل ومشـاقة , ومشقة الوضع ومئونة الرّضاع والتّربيّـة . ومزيد الحـنانة واالشـفقة . والله أعــــلم .
الإحسان إلى الجيران
وأمّـا الإحسـان إلى الجـيران فقد أمـر الله به في قـوله تعـالى : (( واعـبدوا الله ولا تشركـوا به شـيئا وبالوالدين احسـانا وبذي القربي واليتـامى والمسـاكين والجـار ذي القربي والجـار الجنب )) . وقـد عظَـم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّ الجـار, وحثّ على الإحسـان إليه , وبالغ في النهي عن إيـذائه , حتّى قال عليه الصلاة والسلام : (( مـازال جبريل يوصيني بالجـار حتي ظننت أنه سيورّثه )) أي يجعـل لـه نصيبـا من الإرث في مـال جـاره . وقـال عليه الصلاة والسلام : (( من كـان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جـاره )) وقال عليه الصـلاة والسلام : (( من أذي جــاره فـقد أذاني , ومن أذاني فـقد أذي الله )) وقـال عليه الصلاة والسلام : (( والله لا يؤمن من لم يأمن جـاره بوائقه )) يعني بذلك شـرَه وأذاه وفتنته . والله أعلم
وحقّ الجـار عظيم , وإحسـان إليه من أهـمّ المهـمَات في الدين , ولا يتمّ الإحسـان إلاّ بكفّ الأذي عنه , وإحتمـال الأذي منه إن أذاك , مع اصطناع المعروف وبذل الإحسـان إليه حسب الإستطـاعة , وذلك وصف كل مؤمن كـامل الإيمـان كمـا قال عليه الصلاة والسلام : (( أحسن من جـاورك تكن مؤمنا ))
وأحقّ الجيران بالإحسـان الأقرب منهم بـابا إليك فالأقرب وفي الحديث : (( إنَ من الجيران من له ثلاثة حقوق وهو الجـار المسلم ذو القرابة , ومنهم من له حقَـان وهو الجـار المسلم , ومنهم من له حقَ واحد وهو الجـار الذمَي )) فانظر كيف أثَبت للجـار الذمّي حقّ الجوار مع كفره تعرف به عظيم تأكيد حقّ الجـار ومحلـّه من الدّ ين , فعليك رحمك الله بالإحسـان الي جيرانك حسب الإمكـان بعد كفّ الأذي عنهم مطلقـا واحتمـال الأذي منهم إن كـان , واستعن بالله واصبر (( ومـا يلقَـاهـا إلاّ الـذين صبروا ومـا يلقَـاها إلاَ ذو حظّ عظـيم )) .
وقد ذكـر الإمـام حجّة الإسـلام ( في الإحيـاء وغيره ) حـديثا جـامعـا فيمـا ينبغي للجـار أن يفعله مع جـاره : فقـال رحمه الله : قال عليه الصلاة والسلام :(( أتدرون مـا حقَ الجـار ؟ إن استعـان بك أعنته , وإن استعرضك أقرضته , وإن افتقـر جـدت عليه , وإن مرض عدته , وإن مـات تبعت جنازته , وإن أصـابه خيرا هنأته , وإن أصـابه مصيبة عـزّيته , ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاَ بإذنه , ولا تؤدّه , وإن اشتريت فـاكهة فاهـد له , فإن لم تفعل فادخلهـا سـرّا ولا يخرج بهـا ولـدك ليغيظ بهـا ولــده ولا تؤذه بقـتّار قدرك إلاّ عن تغـرف له منهـا . أتدرون مـاحـقَ الجـار ؟ والـذي نفسي بيده مـا يبلـغ حقّ الجـار إلاّ رحمه الله )) .
وقد كـان السلف الصـالح يبـالغـون في الإحسـان إلي الجيران وكفّ الأذي عنهم إلى الغــاية والنهــاية , حتىّ بلغنا أنّه كثر الفــأر في دار بعضهم فقيل له : لو إقتنيت هـرّا ؟ فقـال أخفّ أن يغـرب الفــأر منه إلى ديـار الجـيران , فيكـون ذلك من الأذي لـهـم .
الإحسـان إلى الأصـحاب
وأمّـا الإحسـان إلى الأصحـاب فهو مـأمور به , ومرغب فيه , ومندوب إليه , وللأصحـاب حقوق تجب مراعـاتهـا وتتأكّــد المحـافظة عليهـا : قال الله تعـالى : (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيـئا )) إلى قوله تعـالى : (( والصّـاحب بالجنب ))
وروي عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنَه قال : (( مـا من صـاحب يصحب صـاحبا ولو سـاعة من نهـار إلاَ سئل عن صحـبته يوم القيـامة هل أقـام فيهـا حقَ الله أو أضـاعه )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( خير الأصحـاب خيرهم لصـاحبه , وخير الجيران خيرهم لجـاره )) وقال عليه اللصلاة والسلام : (( مـاتحـابّ إثنان إلاّ كـان أحبّهمـا إلى الله أشـدّهمـا حـبّا لـصـاحبه )) وفي رواية (( أرفقهمـا بصـاحبه )) .
وأصل الصحبة صدق المحـبّة وصفـاء المـودّة , ومهمـا كـان ذلك في الله ولله فثوابه عظـيم , وقـال عليه الصّلاة والسّلام : (( قال الله تعـالى : وجبت محبّـتي للمتحـابّـين فيَ المتجـالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتبـاذلين فيّ )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( يقول الله تعـالى يوم القيـامة : أين المتحـابّـون بجلالي , اليوم أظلّهم في ظلي يوم لا ظلّ إلاَ ظليّ )) .
وقال عليه الصّلاة والسّلام : (( من سـرّه أن يجـد حـلاوة الإيمـان فاليحبّ المـرء لايحبّه إلاالله)). وقال عليه الصلاة والسلام : (( سبعة يظـلّهم الله في ظـلّه يوم لا ظـلّ إلاّ ظـلّه , فـذكرهم حتّى قال : ورجـلان تحـابّا في الله , إجتمعـا عليه وتفـرّقا عليه ....)) . الحـديث .
فإذا أحبّ الإنسـان الإنسـان وألفه وصـاحبه لأنّه يحبّ الله ويعمـل بطـاعته كـان ذلك من المحبّة في الله تعـالى .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه يعينه على دينه ويسـاعـده على طـاعة ربّه فقـد أحـبّه في الله .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه يعينه على دنيـاه التي يستعـين بهـا علي أخـراه فقـد أحـبّه في الله تعـالى .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه وجـد طبعه يميـل إليه ونفسـه تأنّس به . أو لأنّه يعينه على دنيـاه وأسبـاب معـاشه التي يتمتّع بهـا فتلك محبّة طبعيّة ليست من المحـبّة لله في شيئ , وتلك صـحبة نفسـانيّة إقتضـاهـا ميل الطبع ولكنهـا مبـاحة , ولعـلّـهـا لا تخلو من خير إن شـاء الله تعـالى .
وأمـا إذ أحـبّه وصـاحبه لأنّه يعينه على المعصيّة والظـلم , ويسـاعـده على أسبـاب الفسق والمنكـر فتلك محـبّة وصحـبة مـذمومة قبيحة , وهي سبيل الشيطـان وليست من الله في شـيئ , وهي التي تنقلب في الأخـرة عـداوة وربّمـا انقلبت في الـدنيـا قبل الأخـرة , قال الله تعـالى : (( الأخـلاّء يومئذ بعضهـم لبعض عـدوّ إلاّ المتّـقين )) .
فينبغي لك أيّهـا الأخ أن لا تحـبّ ولا تصحـب إلا أهـل التقوى وأهـل العـلم , وأهـل الـزّهـد في الـدنيـا من عبـاد الله الصـالحين , وأوليـائه المؤمنين , فإنّ المـرء مع من أحـبّ في الـدنيـا والأخـرة كمـا في الحـديث الصحيح , وكمـا قال عليه الصلاة والسلام : (( المـرء من جـليسه , والمـرء على دين خـليله , فلينظر أحـدكم من يخـالل )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( والجليس الصـالح خير من الوحـدة , والـوحدة خير من الجـليس الـسوء )) .
فصحبة المتّقين والصـالحين قـربة إلى الله , وهي الصحبة المحمـودة المشكـورة , وفي فضـلهـا وردت الأخبـار والأثـار الكثيرة , وهي المحـبّة لله وفي الله التي عظـم فضـلهـا وثوابهـا , وارتفع قـدرهـا ومحـلّهـا من الـدين .
وأمـا صـحبة الأشـرار, ومن لا خير في صـحبته من الغـافلين المعـرضين عن الله وعن الـدار الأخـرة فهي الصحبة المـذموحة الممقـوتة , لأنّ أهـل الشـرّ والفسـاد يتعيّن بغضـهم في الله , وتجب مبـاعـدتهم ومجـانبتهم , وذلك من المهمّـات في الـدين . ومن احبّ في الله ولله من بـرّ من عبـاد الله واتّقى , أبغض لا محـالة من عصى الله وأعـرض عن طـاعته , فإن الحبّ في الله والبغض في الله متلازمـان لا يصحّ أحـدهمـا بدون الأخـر , وهمـا من الـدين بمنرلة عـالية رفيعـة , وقد قال رسـول الله صلىّ الله عليه وسـلّم : (( من أوثق عـرى الإيمـان الحـبّ في الله والبغص في الله )). وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفضل الأعمـال الحبّ في الله والبغض في الله ...)) . وقال عليه الصلاة والسلام : (( وهـل الـدين إلاّ الـحبّ
في الله والبغض في الله )) الحديث . وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام : (( لو عبدتني بعبـادة أهل السمـاء وأهـل الأرض وحبّ فيّ ليس , وبغض فيّ ليس مـا نفعك ذلك عنـدي )) .
وقال عيسى عليه السلام : (( تحبّبوا إلى الله ببغض أهـل المعـاصي , وتقـرّبو إلى الله بالبعـد عنهم , واطلبوا رضـا الله تعـالى بسخطـهم )).
وقال الحسن البصـري وحمه الله تعـالى : مقـاطعة الفـاسق قـربـان إلى الله . إنتهـى
فتبيّن بمـا ذكـرنا : أنّه ينبغي للمـؤمن ويتعيّن عليه أن يحـبّ أهـل الخير والـدين والعـلم والصلاح أحـيـاء وأمواتـا , ويبغض أهـل البـاطل والفسـاد والظـلم والفسوق أحيـاء وأمواتـا .
وينبغي له أيضـا :يخـتـار صحـبة الأخيـار والأبـرار , ويجتنب صحبة الأشـرار والفجـار. وفي الحديث : (( لا تصحب إلاّ مؤمـنا , ولا يـأكـل طعـامك إلاّ تقيّ )) . وأنّ من لم يجـد مؤمـنا تقـيّا , برّ صـالحـا يصحبه ويعـاشره فالعـزلة والإنفراد خير له وأصـلح له من مخـالطة أهـل الشـرّ والفسـاد , فإن خـلطة المفسـدين عظيم ضـررهـا , كثير شـرّهـا , وفيهـا أفـات كثيرة , وبليّات هـائلة عـاجلة واجـلة , فمنهـا استراق الطـبع من الطبع من حيث لا يشعـر الإنسـان , ومنهـا أن مشـاهـدة أهـل الغـفلة والإعـراض تقتضي الأنس بهـم , والميل إلى مـاهـمّ عليه من سـوء الحـال , وتهـوّن على القلب وقع المعـاصي , وتجـرّ إلى التشـبه بهـم , والإستحسـان لأقوالهم وأفعـالهم , وفي ذلك يقول الشـاعـر :
عن المـرء لا تسـل وسـل عن قـرينه * فكـلّ قـرين بالمقـارن يقتـدي
وقال الأخـر :
مـا يبرء الجـربـاء قـرب سـليمة * منهـا , ولكـنّ السليمة تجـرّب
وبهـذا السبيل تعـرف مـا في خـلطة الأخـيـار وأهـل الصلاح : من المصـالح والمنـافع , والفواعـد العـاجلة والأجـلة , وقـد قـال عليه الصلاة والسلام : (( مثل الجـليس الصـالح كمثـل صـاحب المسك : إمـّا أن يحـذيك – أن يعطيك - , وإمّـا أن تبتـاع منه , وإمّـا أن تجد منه رائحة طيّبة . ومثـل الجـليس السوء كنـافخ الكـير : إمّـا أن يحـرق ثيـابك , وإمّـا أن تجـد منه رائـحة منتنة )) .
(( فإن قـلت )) : قـد يصـحب الإنسـان صـاحبا من أهـل الخير والطـاعة , ثمّ يطـرأ عليه مـا يغـيّر ذلك من الغفلة والمعصـيّة , فمـا الذي ينبغي لصـاحبه أن يعـامله به ؟؟
(( فأقول )) ينصحه باللّـطف والـرّفق حتّى يـردّه إلى الله , وإلاّ وعظه واغـلظ عليه وخـوفه بالله فإن لـم ينفـع فيه ذلك وليس معـه جـانبه وأعـرض عنه , وأنتظـر فيه أمـر الله . فإن عـاد إلى مـا كـان عليه من الخير عـادله , وإلاّ فـلا خير في صـحبة من لا خير فيه .
(( فإن قـلت )) الذي ينبغـي للإنسـان ويتعـيّن عـليه : بغـض أهـل المعـاصي ومجـانبهـم , وترك المعـاشـرة والمخـالطة لهـم , ومع ذلك فالإنسـان مـأمور بالنصيحة للمسلمين عمـومـا , وبدعـوة أهـل الشـرّ والمعصـيّة إلى الخـير والطـاعة ؟
(( فـأقـول )) الأمـر كـذلك , ولكـنّ النصيحة والـدعـوة إلى الخـير لا تقتضي معـاشـرة ومخـالطة , بل إذا لقيهـم ورأى للنصيحة والـدعـوة إلى الـخير موضـعـا فيهم فعـل ذلك معـهم , وإن قصـدهم بذلك وكـان من أهـله إلى أمـاكنهـم من غـير معـاشـرة ولا مخـالطـة فهـو أيضـا مـأمور به ومندوب إليه من أهـله , وفي مـحـلّه فاعـلم ذلك , ولا يـلبس عـليك الشـيطان , فإنّ السبيل واضـح , والحـقّ غـير ملتبس بالبـاطـل .
وقد قـال حجّة الإسـلام رحمـه الله : إذا أردت صـحبة أحـد فراغ فيه خمـس خـصـال : العـقل , والخـلق الحسـن , والصـلاح , وأن لا يكـون حـريصـا عـلى الدّنيـا , وأن لا يكـون كـذّابـا . انتهـى كـلامه مختصـرا , وهـو الغـاية في ذلك والكفـاية .
وحقـوق الصحبة كـثيرة , جـملتهـا : أن تحبّ له مـا تحـبّ لنفسـك من الخـير , وأن تكـره له مـا تكـره لنفسـك من الشـرّ . وأن تنزّله منزلة نفسك في الإهتمـام بأمـوره , والسـعي في مصـالحـه , وقضـاء حـوائجـه , والسـرور بمسـاره والإغـتمـام بمكـاره ز وأن تجـتهـد في إدخـل السـرور عليه بكلّ وجـه أمـكنك , وأن تحفظـه حـاضـرا وغـائبـا وحـيّا وميتـا , وأن تحسـن الوفـاء مع أهـله وأولاده وأقاربه بعـد ممـاته وفي حيـاته كذلك , وأن تواسـيه من مـالك عند حـاجته , وإن أثرته على نفسـك كـان أحسـن وأفضـل , على مثل مـاكـان عليه السـلف الصـالح رحمـة الله عليهـم , فقـد كـان لهـم سـير وأفعـال مع من صحبهـم وعـاشـرهم محمـودة مشـهورة حتى كـان أحـدهـم يأتي إلى بيت صـديقه في غيبته فيـأكـل من طعـامه , ويأخـذ من متـاعه مـا أراد , وكـان الأخـر يفـعل مع أخيه كـذلك .
محتويـات الكتـاب
مقـدّمة الكتـاب
فضل العـلم والعلمـاء وفضل تعليمه وتعلّمه
آداب طالب العلم مع شيخه (حقوق المعلم على الطالب )
حقوق الـوالدين
الإحسـان إلى الأصـحـاب
الإحسـان ألى الـجيران
الحمد لله البر الرحيم، الواسع العليم، ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، المنزل عليه في الذكر الحكيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وعلى آله وأصحابه الكرام جواره في دار النعيم.
أما بعد، فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين جلوا به ذروة المجد والسناء وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء لِعِلْمهم بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه وبما كان عليه أئمة علماء السلف واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف.. فهـذه المجموعة من الأخلاق صغير الحجم ولكن ندعوا الله تعـالى عسى أن يكون كثير النفع.. للمجمّع خصوصا, وللطلبة المـدرسة المتوسطة إحيـاء العلوم عمومـا ...
وسميتهـا بـ (( قول المخـتـار فى مجموعة الأخلاق الأخيـار ))
فضل العـلم والعلمـاء وفضل تعليمه وتعلّمه
قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] قال ابن عباس: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام.
قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } [آل عمران: 18] الآية. بدأ سبحانه بنفسه وثَنَّى بملائكته وثَلَّثَ بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً.
وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]، وقال تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]. وقال تعالى: { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة: 7] إلى قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 8].
فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: ((العلماء ورثة الأنبياء)) وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذُكِرَ عنده رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال: (( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)).
وعنه - صلى الله عليه وسلم -: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافـر)).
واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.
وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل: لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يبينون ما يحل منه وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها.
وعنه - صلى الله عليه وسلم – ((يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء، قال بعضهم: هذا مع أن أعلى ما للشهيد دمه وأدنى ما للعالم مداده)).
وعنه - صلى الله عليه وسلم - ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
وعنه - صلى الله عليه وسلم – ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)). وفي حديث: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء))، وروى: ((العلماء يوم القيامة على منابر من يوم)).
ونقل القاضي حسين بن محمد رحمه الله في أول تعليقه أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أحب العلم والعلماء لم تكتب عليه خطيئة أيام حياته.
قال: وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم عالمًا فكأنما أكرم سبعين نبيًا ومن أكرم متعلمًا فكأنما أكرم سبعين شهيدًا، وأنه قال: من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف نبي ومن صلى خلف نبي فقد غفر له.
ونقل الشرمساحي المالكي في أول كتابه نظم الدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من عظم العالم فكأنما يعظم الله تعالى ومن تهاون بالعالم فإنما ذلك استخفاف بالله تعالى وبرسوله.
وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًا أن يتبرأ منه من هو فيه. وقال بعض السلف: خير المواهب العقل وشر المصائب الجهل. وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا.
وقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال وهب: ((يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيًا، والعز وإن كان مهينًا، والقرب وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا)).
وعن معاذ رضي الله عنه: ((تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة)).
وقال الفضيل بن عياض: عالم معلم يدعى كثيرًا في ملكوت السماء.
وقال سفيان بن عيينة: ((أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء)) ـ وقال أيضًا: لم يعط في الدنيا شيئًا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه، فقيل: عمن هذا؟ قال: عن الفقهاء كلهم.
وقال سهل: ((من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك)).
وقال الشافعي رضي الله عنه: (( إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولي)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة)).
وعن سفيان الثوري والشافعي رضي الله عنهما: ((ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم)).
وعن الزهري رحمه الله: ((ما عُبد الله بمثل الفقه)).
وعن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا، وباب من العلم نعلمه عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ أحب إلينا من مائة ركعة تطوعًا)).
وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.
آداب طالب العلم مع شيخه (حقوق المعلم على الطالب )
أولا : أنّه ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحـسن تعليمًا وأجود تفـهيمًا ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل.
فعن بعض السلف : ((هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
الثاني : أن ينقاد لشيخه في أموره ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاروه فيما يقصده ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويبالغ في حرمته يتقرب إلى الله تعالى بخدمته، ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتواضعه له رفعة.
وقال الغزالي : لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقا السمع، قال: ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده وليدع رأيه فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام بقوله: { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [الكهف: 67]، هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم حتى شرط عليه السكوت فقال: { فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [الكهف: 70].
الثالث : أن ينظره بعـين الإجـلال ويعتقد فيه درجة الكمال فإن ذلك أقرب إلى نفعه به،
وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء وقال : (( اللهم اسـتر عيب شيخي عني ولا تذهب بركـة علمه مني )).
وقال الشافعي رضي الله عنه :(( كنت أصفح الـورقة بين يدي مـالك صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمـع وقعها )).
ويروى العلم أزيـن عند أهلـه من أن يضيعوه . وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه ، ولا يناديه مِنْ بُعْدٍ بل يقول : يا سيدي ويا أستاذي.
وقال الخطيب : يقول : أيها العالم ، وأيها الحافظ ونحو ذلك ، وما تقولون في كـذا وما رأيكم في كـذا وشبه ذلك، ولا يسميه في غيبته أيضًا باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كقوله قال الشيخ أو الأستاذ كذا، وقال شيخنا أو قال حجة الإسلام أو نحو ذلك.
الرابع : أن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، قال شعبة: كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما يحيا، وقال: ما سمعت من أحد شيئًا إلا واختلفت إليه أكثر مما سمعت منه.
ومن ذلك أن يعظم حرمته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس.
وينبغي أن يدعو له مدة حياته ويرعى ذريته وأقاربه وأوداءه بعد وفاته، ويتعمّد زيارة قبره والاستغفار له والصدقة عنه ويسلك في السمت والهدى مسلكه، ويراعي في العلم والـدّين عادته ويقتدي بحركاته وسكناته، في عاداته وعباداته، ويتأدب بآدابه ولا يدع الاقتداء به.
الخامس: أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأوّل أفـعاله التي يظهر أن الصّواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جـفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
وعن بعض السلف : ((من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة )).
ولبعضهم : (( واصبر لجهلك إن جفوت معلمًا * اصبر لدائك إن جفوت طبيبه ))
وعن ابن عباس : ((ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا )). وقال قبله :
((لا ينصحان إذا هما لم يكرما * إن المعلم والطبيب كليهما ))
السادس: أن يشكر الشيخ على توقيفه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه .
وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب أو نقيصة صدرت منه وكان يعرفه من قبل فلا يظهر أنه كان عارفًا به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، فإن كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به وإلا تركه، إلا أن يترتب على ترك بيان العذر مفسدة فيتعين إعلامه به.
السابع: أن لا يد خـل على الشيخ في غير المجلس العلـم إلا باستئذان سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن له انصرف ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيًا بأدب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً قليلاً، فإن كان الموضع بعيدًا عن الباب والحلقة فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يُقَدَّم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم سلم عليه الأفضل فالأفضل.
وينبغي أن يدخل على الشيخ كامل الهيئة متطهر البدن والثياب نظيفهما بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر وقطع رائحة كريهة لاسيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة.
ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام وعنده من يتحدث معه فسكتوا عن الحديث أو دخل والشيخ وحده يصلي أو يذكر أو يكتب أو يطالع فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث فليسلم ويخرج سريعًا إلا أن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا أن يأمره بذلك.
وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالسًا انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه؛ فإن كل درس يفوت لا عوض له ولا يطرق عليه ليخرج إليه، وإن كان نائمًا صبر حتى يستيقظ أو ينصرف ثم يعود والصبر خير له، فقد روي عن ابن عباس كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس، وكذلك كان السلف يفعلون.
الثامن : أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب كما يجلس الصبي بين يدي المقري أو متربعًا بتواضع وخضوع وسكون وخشوع ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه ويقبل بكليته عليه متعقلاً لقوله بحيث لا يُحْوِجُه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو قدامه بغير حاجة ولاسيما عند بحثه له أو عند كلامه معه.
ولا يسند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة أو درابزين، أو يجعل يده عليها، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يعتمد على يده إلى ورائه أو جنبه، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب، ولا يعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم تبسمًا بغير صوت البتة.
ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوبه ويتعاهد تغطية أقدامه وإرخاء ثيابه وسكون يديه عند بحثه أو مذاكرته، وإذا عطس خفض صوته جهده وستر وجهه بمنديل أو نحوه، وإذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.
وعن علي رضي الله عنه قال: ((من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيديك ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن: قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ولا تسارّ في مجلسه ولا تأخذ بثوبه ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء))، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوصية ما فيه كفاية.
التاسع: أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له " لم"، ولا "لا نسلم"، ولا "من نقل هذا"، ولا "أين موضعه" وشبه ذلك .
وعن بعض السلف : ((من قال لشيخه لم، لم يفلح أبدًا، وإذا ذكر الشيخ شيئًا فلا يقل: هكذا قلت أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان، إلا أن يعلم إيثار الشيخ ذلك، وهكذا لا يقول: قال فلان خلاف هذا، وروى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح ونحو ذلك)).
وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهوًا فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيبًا لغفلة أو سهو أو قصور نظر في تلك الحال فإن العصمة في البشر للأنبياء صلى الله عليهم وسلم
العاشر : إذا سمع الشـيخ يذكـر حكمًا في مسـألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرًا وهو يحفظ ذلك أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال متعطش إليه فرح به كأنه لم يسمعه قط.
قال عطاء: (( إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا)).
قال الـزهري : (( إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وينبغي أن لا يقصر في الإصغاء والتفهم أو يشتغل ذهنه بفكر أو حديث ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب بل يكون مصغيًا لكلامه حاضر الذهن لما يسمعه من أول مرة)).
الحـادي عشـر: أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسالة أو جواب سؤال منه أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه له قبل الشيخ، فإن عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه فلا بأس.
وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه؛ أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه بل يصبر حتى يفرغ الشيخ كلامه ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع جماعة المجلس.
الثـاني عشـر: إذا ناوله الشيخ شيئًا تناوله باليمين وإن ناوله شيئًا ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا أو قصة أو مكتوب شرعي ونحو ذلك نشرها ثم دفعها إليه ولا يدفعها إليه مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورة قبل أن يطويها أو يتربها.
وإذا جلس بين يديه لذلك فلا يقرب منه قربًا كثيرًا ينسب فيه إلى سوء أدب.
ولا يضع رجله أو يده أو شيئًا من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئًا من بدنه أو ثيابه.
وإذا ناوله قلمًا ليمد به فليمده قبل إعطائه إياه، وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة لكتابة منها، وإن ناوله سكينًا فلا يصوب إليه شفرتها ولا نصابها ويده قابضة على الشفرة، بل يكون عرضًا وحد شفرتها إلى جهته قابضًا على طرف النصاب مما يلي النصل جاعلاً نصابها على يمين الآخذ.
وإن ناوله سجادة ليصلي عليها نشرها أولاً والأدب أن يفرشها هو عند قصد ذلك، وإذا فرشها ثنى مؤخَّرَ طرفها الأيسر كعادة الصوفية فإن كانت مثنية جعل طرفيها إلى يسار المصلي وإن كانت فيه صورة محراب تحرى به جهة القبلة إن أمكن.
ولا يجلس بحضرة الشيخ على سجادة ولا يصلي عليها إذا كان المكان طاهرًا.
وإذا قام الشيخ بادر القوم إلى أخذ السجادة وإلى الأخذ بيده أو عضده إن احتاج، وإلى تقديم نعله إن لم يشق ذلك على الشيخ؛ ويقصد بذلك كله التقرب إلى الله وإلى قلب الشيخ.
وقيل: ((أربعة لا يأنف الشريف منهن وإن كان أميرًا؛ قيامُه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عن ما لا يعلم، وخدمته للضيف)).
الثالث عشر : إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل وخلفه بالنهار إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها ويتقدم عليه في المواطئ المجهولة الحال كوحل أو حوض، أو المواطئ الخطرة .
وإذا مشى أمامه التفت إليه بعد كل قليل ، فإن كان وحده والشيخ يكلمه حالة المشي وهما في ظل فليكن في يمينه وقيل: عن يساره، متقدمًا عليه قليلاً ملتفتًا إليه ويُعَرِّف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به.
ولا يمشي لجانب الشيخ إلا لحاجة أو إشارة منه ، ويحترز من مزاحمته بكتفه أو بركابه إن كانا راكبين وملاصقة ثيابه .
وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام، ويقصده بالسلام إن كان بعيدًا ولا يناديه ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب منه ويتقدم عليه ثم يسلم، ولا يشير عليه ابتداء بالأخذ في طريق حتى يستشيره ويتأدب فيما يستشيره الشيخ بالرد إلى رأيه.
ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يُحسن خطابه في الرد إلى الصواب كقوله: يظهر أن المصلحة في كذا،
ولا يقول الرأي عندي كذا وشبه ذلك.
حقـوق الـوالـدين
إعـلمـو معـاشـر الإخـوان جعلنا الله وإيّاكـم من البـارّين المحسـنين , القـائمين بحقـوقه تعـالى , وبحقوق عبـاده إبتغـائ وجهـه ومـرضـاته أن برّ الـوالـدين , وصـلة الأرحـام والأقـربين , وحـسن القيـام بالأهـل والعـيـال والممـلـوكين , والإحـسـان إلى الجـيران والأصـحـاب وسـائر المسـلمين , كـلّ ذلك ممّـا أمـر الله به وحـث عـليه , ورغـب فيه وندب إليه , ونهـى عـن تـركـه وإغـفـاله , وتوعّـد عـلى إضـاعـته وإهـمـاله .
أمّـا الـوالـدين فقـد أمـر الله ببرّهـمـاوالإحسـان إليهـما ونهـى عقـوقهمـا , وشـدّد في ذلك أبـلغ الـتشـديد , وحـذّر عنه أبـلغ التحـضير , وذلك في كتـابه العـظـيم , وعـلى لسـان رسـوله الكـريم , قال الله تعـالى : (( وقضى ربّك أن لا تعبـدوا إلاّ إيّـاه وبالـوالـدين إحسـانا إمّـا يبلغـنّ عـندك الكـبر أحـدهـمـا أو كـلاهـما فلا تقل لهـما أفّ ولا تنهـرهمـا وقـل لهمـا قولا كـريمـا . واحفـض لهمـا جنـاح الـذّلّ من الـرحمـة وقل ربّ ارحمهمـا كمـا ربّيـاني صـغيـرا )) وقال تعـالى (( ووصّينـا الإنسـان بوالـديه حملته أمّـه وهـنا على وهـن وفصـاله في عـامين أن أشـكـر لي ولـوالـديك إليّ الـمصـير )) فـانظـروا رحمكـم الله كيف قـرّن تعـالى الأمـر بالإحسـان إلى الـوالـدين مع توحـيده وعبـادته , وكيف قـرّن شـكرهمـا بشـكره , وقال تعـالى : (( واعـبدوا الله ولا تشـركـو به شـيئا وبالـولـدين إحسـانـا )) وقال تعـالى (( ووصّينا الإنسـان بوالـديه إحسـانا حملتـه أمّـه كـرهـا ووضعتـه كـرهـا .... )) الأية إلى أخـرهـا, والأية الـتى تليهـا .
وقـال عـبدالله بن مسـعود وضي الله عنه : سـألت وسـول الله صـلى الله عـليه وسـلّم : أيّ الأعـمـال أحـبّ إلى الله ؟ فقـال : (( الصـلاة لـوقتهـا , قلت ثمّ أيّ ؟ قـال : برّ الـوالدين . قلت ثمّ أيّ . قال : الجـهـاد في سـبيل الله )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( وضـا الله في وضـا الـوالـدين , وسخـطـه في سـخـط الـوالـدين )).
وقال عليه الصلاة والسلام : (( ثلاث لا ينفع معهمـا عـمل : الإشـراك بالله , وعقوق الـوالـدين , والفـرتر يوم الـزحـف )).
وقال عليه الصلاة والسلام : (( أكـبر الكـبـائر ثلاث : الإشـراك بالله , وعقوق الـوالـدين , وشـهـادة الـزور....)) الـحـديث
وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( وغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهمـا أو كلاهمـا فلم يدخل الجنّة )) أي فلم يبرّهمـا برّ يكون سببا في دخوله الجنّة . وخصّ به البرّ عند الكبر لاشتداد حـاجة الإنسـان عند كبره إلى من يبرّه ويقوم به , ويتعـاهـده أكـثر من حـاجته إلى ذلك قبل الكبر والله أعـلم .
وروي عن الله تعـالى أنّه قال : (( من أصبح مـرضيّـا لوالديه مسخطا ليّ فأنا عنه راض , ومن أصبح مـرضيّا ليّ مسخطـا لوالديه فأنا عنه سـاخط )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( برّوا أبـائكم يبرّكـم أبنـائكم , وعفـو عن نساء النـاس تعفوا نسـائكم )) . وقال صلّى الله عليه وسـلّم لرجل إستأذنه في جـهـاد : (( أحيّ والداك ؟ قال نعم ففيهـا فجـاهد )) . وسأله عليه الصلاة والسلام رجـل فقال : مـا حقّ الوالدين على ولدهمـا ؟ فقال (( همـا جنّتك ونارك )).
وقال عليه الصلاة واالسلام : (( من سـرّه أن يمـدّ له في عمـره ويزاد له في رزقه فليبرّ والديه, وليصل رحمـه )).
وقال عليه الصلاة واالسلام : (( ثلاث حـرّم الله تـارك وتعـالى عليهم الجـنّة : مدمن الخمـر , واللعـاق لوالديه , ولديوث التي يقرّ الخبث في أهـله )) وورد " أنّ برّ الوالدين أفضل من الحجّ والعمـرة والجهـاد في سبيل الله , وأنّ العـاق لوالديه لا ينظـر الله إليه يوم القيـامة , وأنّه لا يرح وائحة الجنّة"
وبالجملة فحقّ الوالدين أعظم الحقوق بعـد حقّ الله وحـقّ رسـوله , فعليك يبرّهمـا وبالإحسـان إليهمـا , وبطـاعتهمـا وخفض الجنـاح لهمـا , وبتقديمهمـا في لبرّ والصلة والمعروف , على نفسك وعلى أهلك وأولادك , من غير منة عليهـمـا ولا إستثقال لهمـا , وعـدّ حـاجتهمـا إليك ورغبتهمـا في برّك وخدمتك إيّاهـما من أعظم مـا منّ الله به عليك , ووفقك له .
واعلم أنّ برّ الوالـدة أضعـاف برّ الواـلد , كمـا ورد في الحديث . ولعـلّ السبب في ذلك مـا تقاسيه الوالـدة من تعب الحمـل ومشـاقة , ومشقة الوضع ومئونة الرّضاع والتّربيّـة . ومزيد الحـنانة واالشـفقة . والله أعــــلم .
الإحسان إلى الجيران
وأمّـا الإحسـان إلى الجـيران فقد أمـر الله به في قـوله تعـالى : (( واعـبدوا الله ولا تشركـوا به شـيئا وبالوالدين احسـانا وبذي القربي واليتـامى والمسـاكين والجـار ذي القربي والجـار الجنب )) . وقـد عظَـم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّ الجـار, وحثّ على الإحسـان إليه , وبالغ في النهي عن إيـذائه , حتّى قال عليه الصلاة والسلام : (( مـازال جبريل يوصيني بالجـار حتي ظننت أنه سيورّثه )) أي يجعـل لـه نصيبـا من الإرث في مـال جـاره . وقـال عليه الصلاة والسلام : (( من كـان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جـاره )) وقال عليه الصـلاة والسلام : (( من أذي جــاره فـقد أذاني , ومن أذاني فـقد أذي الله )) وقـال عليه الصلاة والسلام : (( والله لا يؤمن من لم يأمن جـاره بوائقه )) يعني بذلك شـرَه وأذاه وفتنته . والله أعلم
وحقّ الجـار عظيم , وإحسـان إليه من أهـمّ المهـمَات في الدين , ولا يتمّ الإحسـان إلاّ بكفّ الأذي عنه , وإحتمـال الأذي منه إن أذاك , مع اصطناع المعروف وبذل الإحسـان إليه حسب الإستطـاعة , وذلك وصف كل مؤمن كـامل الإيمـان كمـا قال عليه الصلاة والسلام : (( أحسن من جـاورك تكن مؤمنا ))
وأحقّ الجيران بالإحسـان الأقرب منهم بـابا إليك فالأقرب وفي الحديث : (( إنَ من الجيران من له ثلاثة حقوق وهو الجـار المسلم ذو القرابة , ومنهم من له حقَـان وهو الجـار المسلم , ومنهم من له حقَ واحد وهو الجـار الذمَي )) فانظر كيف أثَبت للجـار الذمّي حقّ الجوار مع كفره تعرف به عظيم تأكيد حقّ الجـار ومحلـّه من الدّ ين , فعليك رحمك الله بالإحسـان الي جيرانك حسب الإمكـان بعد كفّ الأذي عنهم مطلقـا واحتمـال الأذي منهم إن كـان , واستعن بالله واصبر (( ومـا يلقَـاهـا إلاّ الـذين صبروا ومـا يلقَـاها إلاَ ذو حظّ عظـيم )) .
وقد ذكـر الإمـام حجّة الإسـلام ( في الإحيـاء وغيره ) حـديثا جـامعـا فيمـا ينبغي للجـار أن يفعله مع جـاره : فقـال رحمه الله : قال عليه الصلاة والسلام :(( أتدرون مـا حقَ الجـار ؟ إن استعـان بك أعنته , وإن استعرضك أقرضته , وإن افتقـر جـدت عليه , وإن مرض عدته , وإن مـات تبعت جنازته , وإن أصـابه خيرا هنأته , وإن أصـابه مصيبة عـزّيته , ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاَ بإذنه , ولا تؤدّه , وإن اشتريت فـاكهة فاهـد له , فإن لم تفعل فادخلهـا سـرّا ولا يخرج بهـا ولـدك ليغيظ بهـا ولــده ولا تؤذه بقـتّار قدرك إلاّ عن تغـرف له منهـا . أتدرون مـاحـقَ الجـار ؟ والـذي نفسي بيده مـا يبلـغ حقّ الجـار إلاّ رحمه الله )) .
وقد كـان السلف الصـالح يبـالغـون في الإحسـان إلي الجيران وكفّ الأذي عنهم إلى الغــاية والنهــاية , حتىّ بلغنا أنّه كثر الفــأر في دار بعضهم فقيل له : لو إقتنيت هـرّا ؟ فقـال أخفّ أن يغـرب الفــأر منه إلى ديـار الجـيران , فيكـون ذلك من الأذي لـهـم .
الإحسـان إلى الأصـحاب
وأمّـا الإحسـان إلى الأصحـاب فهو مـأمور به , ومرغب فيه , ومندوب إليه , وللأصحـاب حقوق تجب مراعـاتهـا وتتأكّــد المحـافظة عليهـا : قال الله تعـالى : (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيـئا )) إلى قوله تعـالى : (( والصّـاحب بالجنب ))
وروي عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنَه قال : (( مـا من صـاحب يصحب صـاحبا ولو سـاعة من نهـار إلاَ سئل عن صحـبته يوم القيـامة هل أقـام فيهـا حقَ الله أو أضـاعه )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( خير الأصحـاب خيرهم لصـاحبه , وخير الجيران خيرهم لجـاره )) وقال عليه اللصلاة والسلام : (( مـاتحـابّ إثنان إلاّ كـان أحبّهمـا إلى الله أشـدّهمـا حـبّا لـصـاحبه )) وفي رواية (( أرفقهمـا بصـاحبه )) .
وأصل الصحبة صدق المحـبّة وصفـاء المـودّة , ومهمـا كـان ذلك في الله ولله فثوابه عظـيم , وقـال عليه الصّلاة والسّلام : (( قال الله تعـالى : وجبت محبّـتي للمتحـابّـين فيَ المتجـالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتبـاذلين فيّ )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( يقول الله تعـالى يوم القيـامة : أين المتحـابّـون بجلالي , اليوم أظلّهم في ظلي يوم لا ظلّ إلاَ ظليّ )) .
وقال عليه الصّلاة والسّلام : (( من سـرّه أن يجـد حـلاوة الإيمـان فاليحبّ المـرء لايحبّه إلاالله)). وقال عليه الصلاة والسلام : (( سبعة يظـلّهم الله في ظـلّه يوم لا ظـلّ إلاّ ظـلّه , فـذكرهم حتّى قال : ورجـلان تحـابّا في الله , إجتمعـا عليه وتفـرّقا عليه ....)) . الحـديث .
فإذا أحبّ الإنسـان الإنسـان وألفه وصـاحبه لأنّه يحبّ الله ويعمـل بطـاعته كـان ذلك من المحبّة في الله تعـالى .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه يعينه على دينه ويسـاعـده على طـاعة ربّه فقـد أحـبّه في الله .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه يعينه على دنيـاه التي يستعـين بهـا علي أخـراه فقـد أحـبّه في الله تعـالى .
وإذا أحبّه وصحّبه لأنّه وجـد طبعه يميـل إليه ونفسـه تأنّس به . أو لأنّه يعينه على دنيـاه وأسبـاب معـاشه التي يتمتّع بهـا فتلك محبّة طبعيّة ليست من المحـبّة لله في شيئ , وتلك صـحبة نفسـانيّة إقتضـاهـا ميل الطبع ولكنهـا مبـاحة , ولعـلّـهـا لا تخلو من خير إن شـاء الله تعـالى .
وأمـا إذ أحـبّه وصـاحبه لأنّه يعينه على المعصيّة والظـلم , ويسـاعـده على أسبـاب الفسق والمنكـر فتلك محـبّة وصحـبة مـذمومة قبيحة , وهي سبيل الشيطـان وليست من الله في شـيئ , وهي التي تنقلب في الأخـرة عـداوة وربّمـا انقلبت في الـدنيـا قبل الأخـرة , قال الله تعـالى : (( الأخـلاّء يومئذ بعضهـم لبعض عـدوّ إلاّ المتّـقين )) .
فينبغي لك أيّهـا الأخ أن لا تحـبّ ولا تصحـب إلا أهـل التقوى وأهـل العـلم , وأهـل الـزّهـد في الـدنيـا من عبـاد الله الصـالحين , وأوليـائه المؤمنين , فإنّ المـرء مع من أحـبّ في الـدنيـا والأخـرة كمـا في الحـديث الصحيح , وكمـا قال عليه الصلاة والسلام : (( المـرء من جـليسه , والمـرء على دين خـليله , فلينظر أحـدكم من يخـالل )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( والجليس الصـالح خير من الوحـدة , والـوحدة خير من الجـليس الـسوء )) .
فصحبة المتّقين والصـالحين قـربة إلى الله , وهي الصحبة المحمـودة المشكـورة , وفي فضـلهـا وردت الأخبـار والأثـار الكثيرة , وهي المحـبّة لله وفي الله التي عظـم فضـلهـا وثوابهـا , وارتفع قـدرهـا ومحـلّهـا من الـدين .
وأمـا صـحبة الأشـرار, ومن لا خير في صـحبته من الغـافلين المعـرضين عن الله وعن الـدار الأخـرة فهي الصحبة المـذموحة الممقـوتة , لأنّ أهـل الشـرّ والفسـاد يتعيّن بغضـهم في الله , وتجب مبـاعـدتهم ومجـانبتهم , وذلك من المهمّـات في الـدين . ومن احبّ في الله ولله من بـرّ من عبـاد الله واتّقى , أبغض لا محـالة من عصى الله وأعـرض عن طـاعته , فإن الحبّ في الله والبغض في الله متلازمـان لا يصحّ أحـدهمـا بدون الأخـر , وهمـا من الـدين بمنرلة عـالية رفيعـة , وقد قال رسـول الله صلىّ الله عليه وسـلّم : (( من أوثق عـرى الإيمـان الحـبّ في الله والبغص في الله )). وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفضل الأعمـال الحبّ في الله والبغض في الله ...)) . وقال عليه الصلاة والسلام : (( وهـل الـدين إلاّ الـحبّ
في الله والبغض في الله )) الحديث . وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام : (( لو عبدتني بعبـادة أهل السمـاء وأهـل الأرض وحبّ فيّ ليس , وبغض فيّ ليس مـا نفعك ذلك عنـدي )) .
وقال عيسى عليه السلام : (( تحبّبوا إلى الله ببغض أهـل المعـاصي , وتقـرّبو إلى الله بالبعـد عنهم , واطلبوا رضـا الله تعـالى بسخطـهم )).
وقال الحسن البصـري وحمه الله تعـالى : مقـاطعة الفـاسق قـربـان إلى الله . إنتهـى
فتبيّن بمـا ذكـرنا : أنّه ينبغي للمـؤمن ويتعيّن عليه أن يحـبّ أهـل الخير والـدين والعـلم والصلاح أحـيـاء وأمواتـا , ويبغض أهـل البـاطل والفسـاد والظـلم والفسوق أحيـاء وأمواتـا .
وينبغي له أيضـا :يخـتـار صحـبة الأخيـار والأبـرار , ويجتنب صحبة الأشـرار والفجـار. وفي الحديث : (( لا تصحب إلاّ مؤمـنا , ولا يـأكـل طعـامك إلاّ تقيّ )) . وأنّ من لم يجـد مؤمـنا تقـيّا , برّ صـالحـا يصحبه ويعـاشره فالعـزلة والإنفراد خير له وأصـلح له من مخـالطة أهـل الشـرّ والفسـاد , فإن خـلطة المفسـدين عظيم ضـررهـا , كثير شـرّهـا , وفيهـا أفـات كثيرة , وبليّات هـائلة عـاجلة واجـلة , فمنهـا استراق الطـبع من الطبع من حيث لا يشعـر الإنسـان , ومنهـا أن مشـاهـدة أهـل الغـفلة والإعـراض تقتضي الأنس بهـم , والميل إلى مـاهـمّ عليه من سـوء الحـال , وتهـوّن على القلب وقع المعـاصي , وتجـرّ إلى التشـبه بهـم , والإستحسـان لأقوالهم وأفعـالهم , وفي ذلك يقول الشـاعـر :
عن المـرء لا تسـل وسـل عن قـرينه * فكـلّ قـرين بالمقـارن يقتـدي
وقال الأخـر :
مـا يبرء الجـربـاء قـرب سـليمة * منهـا , ولكـنّ السليمة تجـرّب
وبهـذا السبيل تعـرف مـا في خـلطة الأخـيـار وأهـل الصلاح : من المصـالح والمنـافع , والفواعـد العـاجلة والأجـلة , وقـد قـال عليه الصلاة والسلام : (( مثل الجـليس الصـالح كمثـل صـاحب المسك : إمـّا أن يحـذيك – أن يعطيك - , وإمّـا أن تبتـاع منه , وإمّـا أن تجد منه رائحة طيّبة . ومثـل الجـليس السوء كنـافخ الكـير : إمّـا أن يحـرق ثيـابك , وإمّـا أن تجـد منه رائـحة منتنة )) .
(( فإن قـلت )) : قـد يصـحب الإنسـان صـاحبا من أهـل الخير والطـاعة , ثمّ يطـرأ عليه مـا يغـيّر ذلك من الغفلة والمعصـيّة , فمـا الذي ينبغي لصـاحبه أن يعـامله به ؟؟
(( فأقول )) ينصحه باللّـطف والـرّفق حتّى يـردّه إلى الله , وإلاّ وعظه واغـلظ عليه وخـوفه بالله فإن لـم ينفـع فيه ذلك وليس معـه جـانبه وأعـرض عنه , وأنتظـر فيه أمـر الله . فإن عـاد إلى مـا كـان عليه من الخير عـادله , وإلاّ فـلا خير في صـحبة من لا خير فيه .
(( فإن قـلت )) الذي ينبغـي للإنسـان ويتعـيّن عـليه : بغـض أهـل المعـاصي ومجـانبهـم , وترك المعـاشـرة والمخـالطة لهـم , ومع ذلك فالإنسـان مـأمور بالنصيحة للمسلمين عمـومـا , وبدعـوة أهـل الشـرّ والمعصـيّة إلى الخـير والطـاعة ؟
(( فـأقـول )) الأمـر كـذلك , ولكـنّ النصيحة والـدعـوة إلى الخـير لا تقتضي معـاشـرة ومخـالطة , بل إذا لقيهـم ورأى للنصيحة والـدعـوة إلى الـخير موضـعـا فيهم فعـل ذلك معـهم , وإن قصـدهم بذلك وكـان من أهـله إلى أمـاكنهـم من غـير معـاشـرة ولا مخـالطـة فهـو أيضـا مـأمور به ومندوب إليه من أهـله , وفي مـحـلّه فاعـلم ذلك , ولا يـلبس عـليك الشـيطان , فإنّ السبيل واضـح , والحـقّ غـير ملتبس بالبـاطـل .
وقد قـال حجّة الإسـلام رحمـه الله : إذا أردت صـحبة أحـد فراغ فيه خمـس خـصـال : العـقل , والخـلق الحسـن , والصـلاح , وأن لا يكـون حـريصـا عـلى الدّنيـا , وأن لا يكـون كـذّابـا . انتهـى كـلامه مختصـرا , وهـو الغـاية في ذلك والكفـاية .
وحقـوق الصحبة كـثيرة , جـملتهـا : أن تحبّ له مـا تحـبّ لنفسـك من الخـير , وأن تكـره له مـا تكـره لنفسـك من الشـرّ . وأن تنزّله منزلة نفسك في الإهتمـام بأمـوره , والسـعي في مصـالحـه , وقضـاء حـوائجـه , والسـرور بمسـاره والإغـتمـام بمكـاره ز وأن تجـتهـد في إدخـل السـرور عليه بكلّ وجـه أمـكنك , وأن تحفظـه حـاضـرا وغـائبـا وحـيّا وميتـا , وأن تحسـن الوفـاء مع أهـله وأولاده وأقاربه بعـد ممـاته وفي حيـاته كذلك , وأن تواسـيه من مـالك عند حـاجته , وإن أثرته على نفسـك كـان أحسـن وأفضـل , على مثل مـاكـان عليه السـلف الصـالح رحمـة الله عليهـم , فقـد كـان لهـم سـير وأفعـال مع من صحبهـم وعـاشـرهم محمـودة مشـهورة حتى كـان أحـدهـم يأتي إلى بيت صـديقه في غيبته فيـأكـل من طعـامه , ويأخـذ من متـاعه مـا أراد , وكـان الأخـر يفـعل مع أخيه كـذلك .
محتويـات الكتـاب
مقـدّمة الكتـاب
فضل العـلم والعلمـاء وفضل تعليمه وتعلّمه
آداب طالب العلم مع شيخه (حقوق المعلم على الطالب )
حقوق الـوالدين
الإحسـان إلى الأصـحـاب
الإحسـان ألى الـجيران